ياقوت الحموي لم يكن ابن بيت علم… بل ابن مكتبة، ابن السفر، ابن الحرف
هل تعلم؟
أن أحد أعظم من كتب عن جغرافيا العالم الإسلامي، ودوّن أسماء المدن والقرى والجبال والأنهار كما يدوّن العاشق أسماء أحبابه…
كان عبدًا مملوكًا في الأصل؟
وأن هذا العبد، الذي قُدّر له أن يكون خادمًا في مكتبة، صار بعد سنين "ياقوت الأدب والبلدان"؟
إنه هو… ياقوت الحموي، سيّد علم البلدان، وأديب الجغرافيا، والرحّالة الذي طاف الأرض بالقلم لا بالفرس!
---
من هو ياقوت الحموي؟
اسمه الكامل: ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي
"ياقوت": اسمُ عبوديته، لا نسبه.
"الحموي": نسبة إلى حماه الشامية، حيث عاش لفترة.
"الرومي": لأنه من أصل بيزنطي، أُسر صغيرًا، وجيء به إلى بغداد عبدًا، فاشتراه تاجر كتب، وعلّمه، وأعتقه بعد ذلك.
لكنه لم ينسَ أصله، ولم يتصنّع يومًا النسب أو الثراء…
بل جعله دافعًا لأن يصعد بالقلم حيث لم يصل به النسب!
---
ماذا فعل ياقوت؟
كتب كتابًا يُعد من أعظم مراجع الجغرافيا في تاريخ الإسلام:
> "معجم البلدان"
وهو ليس مجرد دليل جغرافي… بل كتاب تاريخ، أدب، شعر، حكايات، أنساب، لهجات، مرويات، ورحلات.
تخيل كتابًا يقول لك عن كل بلدة:
موقعها.
من سكنها.
من مرّ بها من شعراء.
من قُتل فيها من الخلفاء.
ومن اختبأ فيها من العشّاق.
وكتب أيضًا:
"المشترك وضعًا والمفترق صُقعًا" ← عن المدن التي تتشابه أسماؤها وتختلف مواقعها.
"معجم الأدباء" ← كأنه فيسبوك القرون الوسطى… لكن للكتّاب فقط!
---
ياقوت… العبد الذي صار بلدانيًّا!
الناس كانوا يعرفون الفقيه، المفسر، النحوي…
لكن "البلداني"؟ هذا علم جديد!
وياقوت كان رائدًا فيه، جمع الجغرافيا مع الأدب، وحوّل الخرائط إلى قصائد.
رحل بين الشام، العراق، الموصل، مرو، نيسابور، خراسان، هربًا من الفتن أحيانًا، وبحثًا عن المخطوطات أحيانًا أخرى.
وكان كلما دخل مدينة، سأل العجائز، ونقب في السجلات، وكتب عنها كأنها قصة حب أولى.
---
قصة طريفة؟ تفضّل…
يروى أن ياقوت، في أحد أسفاره، دخل بلدة صغيرة لا يعرف عنها شيئًا، فجلس مع أهل السوق وسألهم عن اسمها وتاريخها.
فقال له أحد الفلاحين بلهجة ساخرة:
> "وهل تُسجَّل قرانا في كتبك يا مولانا؟ نحن نعيش ونموت هنا ولا يذكرنا أحد!"
فردّ عليه ياقوت مبتسمًا:
> "لو لم أكتب عنكم… من سيعرف أنكم عشتم أصلًا؟"
ثم كتب عن القرية، وذكرها في "معجم البلدان"، وقال:
> "قرية صغيرة، أهلها فقراء لكن كرماء اللسان… يُضحكونك قبل أن يُطعموك."
---
وأسلوبه؟
كان ياقوت عاشقًا للغة، دقيقًا في النقل، متين الحجة، لكنه لا يخلو من نُكتة، ومن روح إنسان يحب المدن كما يحب أمهات الكتب.
يمزج بين الرواية والتحليل، ويروي القصص والنكات والأمثال التي سمعها في كل بلد…
كأنه يكتب سيرة الذات من خلال سيرة الأمكنة.
---
فلماذا يهمّنا ياقوت اليوم؟
لأنه أثبت أن العبودية لا تقتل العبقرية.
وأن الخرائط ليست حدودًا، بل ذاكرة حية.
وأن اللغة تستطيع أن تحتضن الجغرافيا، وتحوّلها إلى أدب خالد.
ياقوت لم يكن ابن بيت علم… بل ابن مكتبة، ابن السفر، ابن الحرف.
صنع نفسه بنفسه، وعاش عبدًا سابقًا… لكنه مات سيّدًا في علم لا منافس له فيه.